كنت أتأمل التحول اللافت الذي يشهده قطاع الفعاليات الكبرى خلال زيارتي الأخيرة لليابان، حيث شاركت في المؤتمر الدولي للوجهات والفعاليات والرياضة في سابورو. ما لفت انتباهي هو التغيرات المتسارعة خلال السنوات الخمس الماضية مقارنة بالعشرين عاماً التي سبقتها. ومن المتوقع أن يتجاوز حجم سوق الرياضات الكبرى تريليوني دولار بحلول عام 2032، وهو نمو غير مسبوق. كما بدأت شركات الإعلام والمستثمرون يقدرون القيمة الكبيرة للمرافق الرياضية، بينما تسعى بعض المواقع الرياضية الجديدة للاستفادة من الإرث الاقتصادي الذي تحققه الفعاليات الكبرى، والتي يمكن أن توفر 150,000 إلى 200,000 فرصة عمل.

الوجهات الرياضية الرئيسية في المستقبل
شهدنا تحولاً في أماكن استضافة الفعاليات الرياضية منذ بداية القرن الحالي، فلم تعد الدول الغربية هي المضيف الأساسي للبطولات الرياضية، حيث أفسحت المجال للدول الناشئة التي تمتلك رؤى وطنية طموحة.
وحققت قطر إنجازاً كبيراً باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022، فيما تم اختيار المغرب والسعودية لاستضافة كأس العالم في عامي 2030 و2034 على التوالي. وتُعد الهند وقطر وتركيا من أبرز المنافسين على استضافة الألعاب الأولمبية 2036، بينما تستضيف السنغال دورة الألعابالأولمبية للشباب في عام 2026، وهي أول فعالية أولمبية تُنظم في أفريقيا.

تطرح هذه التحولات العديد من الأسئلة عن قدرات هذه الدول التي لم تحظَ سابقاً بثقة العالم لتنظيم الفعاليات الرياضية الكبرى، ولكن يبدو أن طلبات الاستضافة لم تعد تُرفض بناءً على القدرات الفنية لهذه الدول. وتُعد الهند من أبرز المرشحين لاستضافة الألعاب الأولمبية في عام 2036، رغم أنها لم تنظم أي بطولة تضم رياضات متعددة خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية.
كيف يمكن سد فجوة القدرات؟ المهم في تجربة داكار 2026 هو أنها لا تركز فقط على استضافة الفعالية، بل تنظر إليها كخطوة لبناء نموذج تحتذي به الدول الأفريقية في المستقبل، ما يؤكد أن استضافة الفعاليات الكبرى أصبحت اليوم فرصة لبناء إرث معرفي وتطوير الكفاءات، وليس مجرد تشييد بنية تحتية.
أما في اليابان، فقد لاحظت أنهم يتبعون أسلوباً مدروساً في تنظيم سلسلة من الفعاليات المتعاقبة:
كأس العالم للرجبي 2019
أولمبياد طوكيو 2020 (التي أقيمت في عام 2021(
إكسبو 2025 في أوساكا
تعتمد اليابان أسلوباً يضمن تطوير الخبرات من فعالية إلى أخرى، بحيث تبني كل فعالية على ما سبقها، ما يتيح نقل المعرفة والمهارات واستمرار فرق العمل في تعزيز كفاءتها.
تعمل الجهات المالكة لحقوق الفعاليات الكبرى، مثل اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) واتحاد ألعاب الكومنولث، على تقييم استراتيجياتها في بناء القدرات، وضمان نقل الخبرة والمعرفة بين المدن المضيفة.
تركز المملكة المتحدة على وضع نهج يضمن استمرارية استضافة الفعاليات الكبرى. وفي الوقت نفسه، تعمل وجهات ناشئة مثل قطر والسعودية والإمارات على تقليل اعتمادها على الخبرات الأجنبية وبناء كوادرها وقدراتها الخاصة.
رغم هذه المبادرات الاستراتيجية لسد فجوة المهارات، ما زالت أزمة نقص الكفاءات العالمية تتفاقم، ومن المتوقع أن تؤثر بشكل متزايد على أصحاب الحقوق والدول المضيفة على مدار الأعوام القادمة.
الارتقاء بتجربة المشجعين
هل لاحظتم كيف تغيرت توقعات المشجعين بشكل كبير؟
يعتبر الجيل Z المشاركة في الفعاليات وسيلة لإثبات الحضور الاجتماعي. وقد حققت ألعاب باريس 2024 أكثر من 12 مليار ظهور على وسائل التواصل الاجتماعي، أي ضعف ما سجلته ألعاب ريو 2016.
تحولت علاقة الجمهور بالفعاليات إلى تفاعل مستمر على مدار العام، بدلاً من الاقتصار على يوم الحدث فقط. فقد استقطبت سلسلة "Drive to Survive" التي تقدمها فورمولا 1 جمهوراً يتابع الكواليس والقصص الجانبية بشغف أكبر من متابعة السباقات نفسها، بينما تتيح منطقة الفورمولا 1 الكبرى في لاس فيغاس للجماهير فرصة التفاعل مع الرياضة طوال العام.
يتنوع جمهور الفعاليات اليوم بين من يبحث عن التجارب الجماعية ومن يطالب بعروض حصرية تضمن له التميز. ومع تزايد الطلب على هذه التجارب المميزة، ترتفع التوقعات ويصبح تحقيقها ضرورة لا خياراً. ولم تعد تجربة الحضور تبدأ من لحظة الدخول إلى مكان الفعالية، بل من لحظة شراء التذكرة وتستمر حتى العودة إلى المنزل. تذكرت هذا جيداً خلال حفل افتتاح أولمبياد باريس، بعد أن دفعت 3300 دولار مقابل تذكرة لم تشمل الضيافة ولا حتى مقعداً محمياً من المطر على ضفاف نهر السين. فعندما يُطلب هذا المستوى من الأسعار، من الطبيعي أن يتوقع الجمهور تجربة استثنائية بجميع تفاصيلها من الطعام واللافتات والمواصلات، وصولاً إلى تعامل أفراد الأمن. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحدد الانطباع العام، فإما أن تكون تجربة لا تُنسى، أو تخلق شعوراً بالإحباط والاستياء.
تحولت الفعالية الرياضية اليوم إلى تجربة متكاملة لا تقتصر على الملعب ولا على مواعيد المباريات، بل باتت تجربة شاملة تجمع العالمين الرقمي والواقعي، وتمنح الجمهور فرص المشاركة بطرق مختلفة: من مناطق الجمهور التي تتيح لغير حاملي التذاكر التفاعل مع الفعالية، إلى الملاعب الافتراضية التي تجمع الجمهور من أي مكان في العالم وكأنهم في قلب الحدث. التجربة أصبحت مستمرة وعابرة للحدود، ولم تعد محصورة بمكان أو زمان.
الرياضة تتحول إلى سوق عالمي كبير
بلغت قيمة سوق الفعاليات الكبرى أكثر من 1.7 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن تتخطى عتبة التريليوني دولار بحلول عام 2032، ما يعكس النمو الاستثنائي الذي يشهده هذا القطاع.
ويعكس الحضور القياسي الإقبال العالمي المتزايد على التجارب الحية، فقد شاهد سباقات فورمولا 1 5.7 مليون متفرجاً، بزيادة قدرها 36% مقارنة بعام 2019. لكن هذا النمو لا يتعلق بالتذاكر أو حقوق النقل التلفزيوني فحسب، فقد أصبحت الرياضة تعتمد على نماذج جديدة كلياً في تحقيق الإيرادات، تمتد من التجارب الرقمية إلى المحتوى الحصري. وأصبحت الأندية والمسابقات الرياضية وحقوق الملكية جزءاً من هذه القطاع المزدهر.
استحوذت شركة "ليبرتي ميديا" على حقوق بطولة فورمولا 1 في عام 2017 مقابل 4.4 مليار دولار، ونجحت في رفع إيرادات البطولة إلى 3.65 مليار دولار في عام 2024، وتستعد الآن للتوسع بشراء حقوق بطولة "موتو جي بي". وفي عام 2023، استحوذت شركة "إنديفور" على بطولتي UFC وWWE لتأسيس شركة جديد في مجال الرياضات القتالية والترفيه بقيمة وصلت إلى 21 مليار دولار، ضمن استراتيجية واضحة لبناء إمبراطورية رياضية وترفيهية عبر أكثر من 20 صفقة استحواذ حتى الآن. وفي كرة القدم الأوروبية، تتسابق رؤوس الأموال الأمريكية على شراء الأندية، باعتبارها علامات تجارية ذات إمكانات نمو هائلة. وفي العام الحالي، استحوذت مجموعة استثمارية مدعومة من شركات الأسهم الخاصة على فريق بوسطن سيلتيكس في دوري كرة السلة الأمريكي مقابل 6.1 مليار دولار.
فجوة المهارات والخبرات التي تواجه قطاع الفعاليات الكبرى

يفرض النمو الاستثنائي الذي يشهده قطاع الفعاليات الكبرى تحديات كبيرة، لا سيما النقص في عدد المتخصصين والخبراء الناجم عن آثار جائحة كوفيد-19، فقد انخفض الإنفاق العالمي المباشر على الفعاليات بنسبة أكبر من 70%، ما أدى إلى فقدان الملايين لوظائفهم.
يتطلب تنظيم دورة الألعاب الأولمبية حوالي 200 ألف موظف في مختلف التخصصات، وتستغرق عملية تأهيل الموظفين بالخبرات اللازمة لتشغيل المنشآت وإدارة الحشود والبث التلفزيوني عدة سنوات.
وتؤدي الفجوة في المهارات والخبرات إلى مخاطر كبيرة تشمل:
تجاوز الميزانية المحددة والتأخير نتيجة عدم توفر الخبرات اللازمة.
فشل عمليات التشغيل، ما يؤثر سلبياً على سمعة الدولة.
عدم استغلال الفرص لتعزيز إرث الدولة نتيجة الاستعانة بخبراء دوليين.
تعزيز التخصص في القطاع
تقود تريفاندي الجهود التي تهدف إلى تعزيز التخصص في قطاع الفعاليات الكبرى. وأطلقنا برامج تدريبية بالشراكة مع مؤسسات أكاديمية تجمع بين أساليب البحث والمعرفة والخبرة العملية.
يجب أن يصبح لقطاع الفعاليات هيئة مهنية خاصة به، مثل الهيئات التي تمثل المهندسين والمعماريين والمحامين والمحاسبين، حتى يتعامل الناس مع تنظيم الفعاليات الكبرى كمهنة قائمة بذاتها.
وفي دورة الألعاب الآسيوية الخامسة للصالات المغلقة والفنون القتالية في عشق أباد 2017، قمنا بتدريب موظفين محليين لم تكن لديهم خبرة سابقة في تنظيم الفعاليات، وقد تولوا لاحقاً إدارة عمليات معقدة يمكن أن تشكّل تحدياً حتى للمتخصصين. واليوم، يعمل 470 موظفاً من تركمانستان في تنظيم الفعاليات الكبرى حول العالم.
يمثل هذا التحول ما يحتاجه قطاع الفعاليات الكبرى: الانتقال من التعامل مع إدارة الفعاليات كمشاريع منفصلة إلى ترسيخها كمسار مهني معتمد يقوم على مهارات موحدة وواضحة.
تُبرز تجربة اليابان كيف يمكن لاستضافة الفعاليات الكبرى بشكل متواصل أن تساهم في إعداد قطاع مستدام من المتخصصين. لذلك، أسسنا أكاديمية تريفاندي - الحائزة على جوائز - بالتعاون مع معهد تشارترد للإدارة، لوضع معايير مهنية واضحة في قطاع لطالما اعتمد على الخبرة العملية فقط.
الالتزام ببناء إرث مستدام
يشهد قطاع الفعاليات الكبرى تحولاً في رؤيته، فلم تعد الفعاليات الكبرى مجرد محطة مؤقتة، بل أصبحت وسيلة لإحداث تغيير على المدى الطويل.

الإرث الاقتصادي والبشري: من أسبوعين إلى عقدين
لم يعد تقييم الفعالية يعتمد على مبيعات التذاكر والإقامات الفندقية، فقد تحول التركيز من الإنفاق على الفعالية إلى التنمية الاقتصادية المستدامة.
ويسهم التخطيط الدقيق للفعالية الكبرى في الارتقاء بمكانة الشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية إلى مستوى الشركات العالمية، وتعزيز سلاسل توريد تواصل العمل لعقود. كما يصبح الاهتمام العالمي بالدولة التي تستضيف الفعالية مصدر جذب قوي للاستثمارات بحيث تتجاوز الميزانية الأولية للفعالية.
تتجاوز البنية التحتية الحقيقية حدود المباني والجسور، فهي تبدأ من بناء الإنسان نفسه!
حققت تريفاندي إرثاً قوياً منذ دورة الألعاب الأولمبية في لندن 2012. وبفضل مكاتبها العالمية التي يعمل فيها 90 موظفاً بدوام كامل وأكثر من 170 موظفاً متعاقداً، توفر الشركة خدماتها في 15 دولة. وفي اليابان، دربنا 120 موظفاً محلياً على إدارة الفعاليات وأسسنا شبكة من الشركاء تضم أكثر من 3200 متخصص في تنظيم الفعاليات، لتعزيز القدرات في هذا القطاع.
شاهدت بنفسي كيف تساهم برامج نقل المعرفة في تأسيس قطاعات كاملة من خلال توفير متخصصين يتمتعون بالمهارة. وعند تدريب للمواهب المحلية، لا نكتفي بتوفير القدرات اللازمة لتنظيم الفعاليات، بل نبني قدرات تدعم اقتصاد الدولة على مدار عقود.
يتم نقل المهارات المكتسبة من تنظيم كأس العالم أو الألعاب الأولمبية إلى قطاعات مثل الرعاية الصحية والسياحة وإدارة الطوارئ، مما يحقق قيمة تتجاوز الفعالية نفسها.
الإرث الأخضر: الاستدامة باعتبارها معياراً
لم تعد الاستدامة مجرد مطلب يجب تحقيقه، بل أصبحت جزءاً أساسياً من عملية التخطيط. وأعتقد أن عمليات إنشاء مرافق الفعالية باتت تعتمد مبادئ الاقتصاد الدائري، حيث تسهم الأماكن التي تعتمد على الطاقة المتجددة والكفاءة في استهلاك الطاقة في تقليل التكاليف وحماية البيئة. ويسهم اعتماد الممارسات المستدامة في ترسيخها والتشجيع على اعتمادها في جميع الفعاليات.
إرث الموقع: الارتقاء بهوية المكان
تُحدث الفعاليات تحولاً في المواقع من خلال تطوير البنية التحتية السياحية وتنمية رأس المال البشري. وتعزز التغطية الإعلامية حضور المكان على المستوى الدولي، بينما تسهم برامج تنمية المهارات في بناء القدرات التي يمكن نقلها إلى قطاعات أخرى.
وتواصل المؤسسات التعليمية التي يتم افتتاحها لتدريب المتخصصين تنمية المواهب حتى بعد نهاية الفعالية، ما يعزز الخبرات المحلية ويتيح تنظيم المزيد من الفعاليات. وبدأت بعض الوجهات السياحية، مثل برشلونة، هذا التحول بعد تنظيم فعالية واحدة ساهمت في تغيير الرؤية العالمية لمعايير الفعاليات ودورها في تنمية القدرات المحلية.
التقدم
أعتقد أن النجاح في ظل هذه المعايير يعتمد على:
الاستثمار في تنمية المواهب المحلية وتطوير البنية التحتية.
اعتماد الاستدامة ووضع الخطط اللازمة لبناء إرث للفعالية.
الاعتماد على التقنيات الحديثة لتحسين تجربة المشجعين وكفاءة التشغيل.
التعاون مع المؤسسات الأكاديمية العالمية لوضع مناهج موحدة لنقل المعرفة.
أتذكر الأراضي المغمورة بالمياه أثناء بناء مواقع فعاليات أولمبياد لندن 2012 في ظروف جوية استثنائية. لكن التحول الكبير كان في شرق لندن، حيث تم توفير أكثر من 100,000 فرضة عمل على مدار الأعوام الخمس التي تلت الألعاب، إلى جانب تأسيس مؤسسات ثقافية جديدة وازدهار الحي الذي أصبح اليوم وجهة سياحية بحد ذاته.
تُحدث الفعاليات الكبرى فرقاً حقيقياً عندما تُنظم بالشكل الصحيح، فهي لا تقتصر على أسابيع من المنافسة، بل تخلق أثراً مستداماً يمتد لعقود.